بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل ، فلن تجد له وليا مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارا بربوبيته ، وإرغاما لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم ، رسول الله ، سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه ، وعلى ذريته ، ومن والاه ، ومن تبعه ، إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا ، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول ، فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، تحدثت في خطبتين سابقتين ، عن مظاهر ضعف الإيمان ، وعن أسباب ضعف الإيمان ، ووعدتكم في هذا الأسبوع ، وفي هذه الجمعة المباركة، أن يكون الحديث عن علاج ضعف الإيمان ، وقبل الدخول في هذا الموضوع ، لابد من عرض بعض الحقائق ، المستنبطة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول عليه الصلاة والسلام : ((إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)) ، وهذا حديث صحيح في السلسلة الصحيحة ، هذا لحديث يؤكد أن الإيمان يزداد وينقص ، يقوى ، ويضعف ، فإذا ضعف الإيمان ، فلابد من تقويته ، وإذا تناقص ، فلابد من تجديده ، الحقيقة الثانية ، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو نعيم في الحلية ، وهو في السلسلة الصحيحة : ((ما من القلوب قلب ، إلا وله سحابة
صيف ، فتحجب عنه أحواله التي كان يسعد بها ، أو تحجب عنه إقباله الذي كان يطرب له ، هذه السحابة سرعان ما تزول، إذا كان إيمانك متينا ، وإذا بني على أسس صحيحة ، وإذا كنت متصلا بالله عز وجل، ثم فتر قلبك ، وضعف إيمانك ، فهذا الضعف عارض ، والأصل أنك مؤمن ، فعالج هذه الحالة .
أيها الإخوة الكرام ، الحقيقة المستنبطة من هذين الحديثين الصحيحين ، أن الأيمان يزيد وينقص ، وهذا من صميم اعتقاد أهل السنة ، والجماعة ، فإن الإيمان كما يقال ، نطق باللسان، واعتقاد بالجنان ، وعمل بالأركان ، يزيد بالطاعة ، وينقص بالعصيان ، الإيمان ، نطق باللسان ، واعتقاد بالجنان ، وعمل بالأركان ، يزيد بالطاعة ، وينقص بالعصيان ، الأدلة من كتاب الله عز وجل : ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ، وقوله : ] أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا [ ، من أدلة السنة النبوية المطهرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ )) .
[رواه مسلم
فالإيمان يضعف ، ويقوى ، يزداد وينقص .
أيها الإخوة الكرام ، يعني كواقع ، لو أنك دخلت إلى مسجد ، واستمعت إلى درس علم ، وتفاعلت معه تفاعلا شديدا ، ترى نفسك قريبة من الحق ، قريبة من الله ، قريبة من الآخرة ، لو دخلت إلى الأسواق ، وفيها المنكرات ، وفيها الغاديات الرائحات ، وفيها الكاسيات العاريات ، وفيها البضائع ، براقة ، والأسعار مرتفعة ، تعود ، وقد شعرت بانقباض ، وأنت في بيت من بيوت الله ، إيمانك ازداد ، وأنت في سوق تجاري ، إيمانك ضعف ، بمعنى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : خير البلاد مساجدها ، وشرها أسواقها .
أيها الإخوة الكرام ، من فقه العبد ، أن يعلم متى يزداد إيمانه ، ومتى ينقص ، ومن فقه الرجل أن يعلم نزغات الشيطان متى تأتيه ، وأنى تأتيه ، هذا ما قاله بعض السلف ، لكن هناك فكرة دقيقة جدا ، هي أن الإنسان حينما يضعف إيمانه ، إذا كان ضعف إيمانه قاده إلى ترك واجب ، أو فعل محرم ، فهذت ضعف خطير ، يجب أن يتوب منه سريعا ، وهناك حالة ضعف لا تؤدي به إلى ارتكاب معصية ، ولا إلى ترك واجب ديني ، بل تؤدي به إلى فتور ، يبقى على طاعته ، ويبقى على ترك المناهي ، والمعاصي ، هذا يُعد تراجعا طفيفا ، يستحب أن يسوس نفسه ، ويسدد، ويقارب ، حتى يعود إلى نشاطه ، وقد ورد عن الإمام علي كرم الله وجهه ، أن للنفس ، إقبالا وإدبارا ، فإن أقبلت ، فاحملها على النوافل ، وإن أدبرت فاحملها على الفرائض ، أن يتألق الإنسان أو أن يفتر ، شيء طبيعي ، نحن ساعة وساعة ، سيدنا حنظلة ، رآه الصديق يبكي ، قال مالك يا حنظلة ؟ قال نكون مع رسول الله ونحن والجنة ، كهاتين ، فإذا عافسنا الأهل ننسى
قال أنا كذلك يا أخي ، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد حدثا رسول الله بما جرى ، فقال : ((أما نحن معاشر الأنبياء ، تنام أعيننا ، ولا تنام قلوبنا ، أما أنتم يا أخي فساعة ، وساعة )) ، لو لقيتم على الحالة التي أنتم عليها عندي ، لصافحتكم الملائكة ، ولزارتكم في بيوتكم .
يستنبط من هذا أن المؤمن ، بين التألق والفتور ، لكنه مستقيم على أمر الله ، مقيم على طاعته ، بعيد عن معصيته ، أما الضعف الذي يحملك على معصية الله أو على ترك فريضة ، فهذا ضعف خطير ، يحتاج إلى معالجة سريعة ، إذا كان الضعف طارئا ، وكان الضعف طفيفا ، فإن فترت عزيمتك ، هذا الضعف يُعالج معالجة هادئة، أما إذا كان الضعف خطيرا ، حملك على معصية ، أو حملك على ترك طاعة، فهذا ضعف يحتاج إلى معالجة إسعافية .
أيها الإخوة الكرام ، هؤلاء الذين ينكرون قلوبهم ، وقد قست ، بسبب ضعف إيمانهم ، يبحثون عن علاج خارجي ، علاجكم في أيديكم ، علاجكم في أنفسكم ، علاجكم في الإقبال على ربكم، علاجكم في تلاوة القرآن ، في ذكر الله عز وجل ، في لزوم المساجد ، في حضور الجمعة والجماعات .
أيها الإخوة الكرام ، بعد هذه المقدمة التي تؤكد أن الإيمان يزيد ، وينقص ، وأن الإيمان يتألق، ويفتر ، لابد من بيان بعض أسباب تقوية الإيمان .
أول أسباب تقوية الإيمان ، تدبر القرآن العظيم ، الذي أنزله الله تعالى تبيانا لكل شيء ، ونورا يهدي به سبحانه من يشاء من عباده ، ولاشك أن فيه علاجا عظيما ، لأن الله عز وجل يقول :
[سورة الإسراء]
يعني ، أمراض الجسم أيها الإخوة ، تنتهي عند الموت ، أكبر مرض ، أخطر مرض ، مرض خبيث ، مرض عضال ، ينتهي عند الموت ، ولكن أمراض القلوب تبدأ عند الموت ، ويشقى بها إلى أبد الآبدين ، فلابد من أن نقرأ القرآن لأنه شفاء لنفوسنا .
أيها الإخوة الكرام ، كان عليه الصلاة والسلام ، يتدبر كتاب الله ويردده ، وهو قائم بالليل ، حتى أنه في إحدى الليالي ، قام يردد آية واحدة ، وهو يصلي ، لم يجاوزها ، حتى أصبح ، وهي قوله تعالى :
[سورة المائدة ]
نبينا الكريم ، تلا هذه الآية ، في قيام الليل ، وكان عليه الصلاة ، والسلام ، يتدبر القرآن ، وقد بلغ في ذلك مبلغا عظيما ، روى ابن حبان في صحيحه بإسناد جيد ، قال : دخلت أنا وعبيد الله بن عمير على عائشة ، رضي الله عنها، فقال عبيد الله بن عمير : حدثينا ، بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكت ، وقالت : ((قام ليلة من الليالي ليصلي ، فقال يا عائشة ، ذريني أتعبد ربي ، قالت ، قلت : والله إني لأحب قربك ، وأحب ما يسرك ، قالت : فقام فتطهر ليصلي ، فلم يزل يبكي حتى بل حجره ، ثم بكى ،فلم يزل يبكي حتى بل الأرض ، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فلما رآه يبكي ، قال يا رسول الله ، تبكي ، وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك ، وما تأخر ، قال : أفلا أكون عبدا شكورا ، لقد نزلت عليا الليلة آيات ، ويل لمن قرأها ، ولم يتفكر فيها ، وهي قوله تعالى :
[سورة آل عمران]
أيها الإخوة الكرام ، القرآن كتاب هداية ، فيه وعد ووعيد ، فيه توحيد ، ووعد ، ووعيد ، وأحكام ، وأخبار ، وقصص ، وآداب ، وأخلاق ، آثارها في النفس متنوعة ، يقول عليه الصلاة والسلام مثلا : ((شيبتي هود وأخواتها )) .
وفي رواية : ((شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت)).
هذه السور شيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما احتوت من الحقائق ، والتكاليف العظيمة ، التي ملأت بثقلها قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولعل الآية التي عناها في سورة هود قوله تعالى:
[سورة هود ]
وأما هذا الذي يقول أنا لست نبيا ، اقرأ هذه الآية ، إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين،
وكان أبو بكر رضي الله عنه ، رجلا أسيفا رقيق القلب ، إذا صلى بالناس ، وقرأ بهم لا يتمالك نفسه ، من البكاء ، ومرض عمر في أثر قوله تعالى :
[سورة الطور]
وسُمع نشيجه من وراء الصفوف ، لما قرأ قول الله عز وجل عن يعقوب عليه السلام :
[سورة يوسف]
وقال عثمان رضي الله عنه : لو طهرت قلوبنا ، ما شبعنا من كلام الله ، وقُتل شهيدا مظلوما، ودمه على مصحفه ، وأخبار الصحابة كثيرة جدا ، أيها الإخوة في تدبر القرآن ، سعيد بن جبير ، ردد الآية الواحدة في الصلاة بضعا وعشرين مرة ، قوله تعالى:
[سورة البقرة]
وهي آخر آية نزلت في القرآن ، وتمامها :
أيها الإخوة الكرام ، الفضيل ، وافته المنية ، وهو يتلو هذه الآية :
[سورة الأنعام ]
بعض الصالحين ، قرأ قوله تعالى :
[سورة الإسراء]
فسجد سجود التلاوة ، ثم قال معاتبا نفسه ، هذا السجود ، فأين البكاء ؟ ومن أعظم أنواع التدبر ، تدبر أمثال القرآن ، قال تعالى :
[سورة الحشر ]
وكان بعض السلف يتلو هذه الآية ، فلم يتبين له معناه ، فجعل يبكي ، فسُئل ما يبكيك ؟ قال إن الله عز وجل يقول
[سورة العنكبوت]
وأنا لم أعقل هذا المثل ، فلست بعالم ، فلهذا أبكي على ضياع العلم مني ، في القرآن الكريم أيها الإخوة ، أمثال كثيرة ، مثل الذي استوقد نارا ، مثل الذي ينعق بما لا يسمع ، مثل الحبة التي أنبتت سبع سنابل ، مثل الكلب الذي يلهث ، الحمار الذي يحمل أسفارا ، مثل الذباب ، مثل العنكبوت ، مثل الأعمى والأصم ، والبصير ، والسميع ، مثل الرماد الذي اشتدت به الريح ، ومثل الشجرة الطيبة ، والشجرة الخبيثة ، والماء النازل من السماء ، ومثل المشكاة التي فيها مصباح ، والعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء ، والذي فيه شركاء متشاكسون ، هذه الأمثال لا يعقلها إلا العالمون .
أيها الإخوة الكرام ، ملاك الأمر كما يقول بعض العلماء أن تنقل قلبك من وطن الدنيا ، فتسكن وطن الآخرة ، ثم تقبل به على الله عز وجل .
أيها الإخوة الكرام القرآن الكريم شفاء للنفوس ، يجب أن نتلوه حق تلاوته ، وقال العلماء حق التلاوة ، أن تقرأه ، وأن تفهمه ، وأن تتدبره ، وأن تعمل به ، وأن تعلمه ، هذه حق التلاوة ، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام : ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ )) .
[رواه البخاري عن عثمان]