المبحث الثالث عشر: آداب تلاوة القرآن الكريم وتعظيمه
آداب تلاوة القرآن كثيرة من أهمها الآداب الآتية:
الأدب الأول:معرفة أوصاف هذا القرآن العظيم؛فإنه كلام الله ، وهو حبله المتين، وصراطه المستقيم، والذكر المبارك، والنور المبين، وهو كلام الله: حروفه، ومعانيه، تَكَلَّم به على الوصف اللّائق بجلاله، وسمعه جبريل من رب العالمين، وسمعه محمد من جبريل حينما نزل به على قلبه ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين،وسمعه الصحابة من النبي، مُنَزَّلٌ من الله تعالى غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وهو كتاب عام للثقلين إلى يوم الدين، وهو المعجزة العظمى، هُدىً للناس جميعاً، وهو روح وحياة، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للعالمين، وتبيان لكل شيء، كتاب واضح مبين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، تكفّل الله بحفظه وأحكم آياته، وفصَّلها، تذكرة لمن يخشى، أحسن الحديث، ذكرٌ وقرآنٌ مبين، يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين بالأجر العظيم، ويُحذِّر الكافرين من العذاب الأليم، يهدي إلى الحق وإلى الرشد، وهو القرآن الكريم المجيد العظيم، وفي أم الكتاب عليٌّ حكيم،وما تنَزَّلت به الشياطين،وهو في لوح محفوظ،وهو مُصَدِّقٌ لما بين يديه من الكتب ومهيمن عليها،لو أنزله الله على الجبال لتصدعت من خشية الله تعالى، وهو وصية رسول الله ،وغير ذلك من أوصاف هذا الكتاب المبارك،وهذه الأوصاف وغيرها مما لم يذكر تدل على وجوب تعظيم هذا القرآن،والتأدب عند تلاوته،والابتعاد عند قراءته عن اللعب،والغفلة( ).
الأدب الثاني:إخلاص النية لله تعالى؛لأن تلاوة القرآن من أعظم العبادات لله ، وقد قال الله : فَاعْبُدِ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين ( )، وفي ذلك أحاديث منها الأحاديث الآتية:
1- عن جابر ، قال: دخل النبي المسجد فإذا فيه قوم يقرؤون القرآن، قال: ((اقرؤوا القرآن وابتغوا به وجه الله ، من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح( ) يتعجَّلونه( )، ولا يتأجَّلونه))( )، وفي لفظ لأحمد وأبي داود: قال جابر : خرج علينا رسول الله ، ونحن نقرأُ القرآن وفينا الأعرابي والعجمي( ) فاستمع فقال: ((اقرَؤوا فكل حسنٌ( )، وسيجيء أقوامٌ يُقيمونه كما يُقام القدح يتعجَّلونه ولا يتأجلونه))( )، وفي هذا الحديث رفع الحرج، وبناء الأمر على التيسير في الظاهر، وتحرِّي الحسبة والإخلاص في القراءة، والتفكر في معاني القرآن والغوص في عجائب أمره( ).
2- حديث سهل بن سعد الساعدي ، قال: خرج علينا رسول الله يوماً ونحن نقترِئُ، فقال: ((الحمد لله، كتاب الله واحد، وفيكم الأحمر، وفيكم الأبيض، وفيكم الأسود، اقرؤوه قبل أن يقرأه أقوامٌ يقيمونه كما يُقوَّمُ السَّهْمُ، يُتَعَجَّلُ أَجْرُهُ وَ لا يُتأجَّلُهُ))( ).
3- حديث عمران بن حصين ،أنه مرّ على قاصٍّ يقرأُ ثم سأل، فاسترجع ثم قال:سمعت رسول الله يقول(من قرأ القرآن فليسأل الله به؛فإنه سيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون به الناس))( ).
4- حديث أبي سعيد الخدري ، وفيه: ((... وإن من شرِّ الناس رجلاً فاجراً جريئاً يقرأ كتاب الله ولا يرعوي( ) إلى شيء منه))، وفي لفظ: ((... ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيَهم، ويقرَؤوا القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر))، وفُسِّر: المنافق كافر به، والفاجر يتآكل به، والمؤمن يؤمن به( ).
5- حديث عبد الرحمن بن شبل ،قال سمعت رسول الله يقول: ((اقرؤوا القرآن ولا تغلوا فيه( )، ولا تجفوا عنه( )، ولا تأكلوا به( )،
ولا تستكثروا به( ) ( ))).
6- حديث أبي هريرة عن النبي في الثلاثة الذين أوّل من تُسعّر بهم النار وفيه: ((...ورجل تعلَّم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم، ليُقال عالم، وقرأت القرآن ليُقال: هو قارئ فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار))( ).
7- حديث جندب عن النبي أنه قال: ((من سمّع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به))( ).
8- حديث أبي هريرة ، قال: قال رسول الله : ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه))( ).
الأدب الثالث:أن يقرأ بقلب حاضر،وبتدبر ما يقرأ ويتفهّم معانيه، ويتخشَّع عند ذلك قلبه، ويستحضر بأن الله تعالى يخاطبه في هذا القرآن؛ لأن القرآن كلام الله . قال الله تعالى في الأمر والحث على التدبر: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالـُهَا ( )، ويجعل فكره مع القرآن، ويمنعه من الشرود، والمتأثر بالقرآن: يفرح إذا تلا آيات الترغيب، ويبكي ويحزن عند تلاوة آيات العذاب والإنذار، ويقف؛ ليعرف ما المراد مما يقرأ، ويطهِّر أدوات التلاوة مما عَلِقَ بها من الذنوب بالتوبة: وهي السمع، والبصر، واللسان، والقلب من الشهوات، والشبهات( ).
الأدب الرابع:أن يقرأ على طهارة؛لأن هذا من تعظيم كلام الله تعالى، فالمستحب لقارئ القرآن أن يقرأه على طهارة من الحدث الأصغر؛ لأنه يجوز له القراءة عن ظهر قلب في الحدث الأصغر، أما الحدث الأكبر فلا ولا آية؛ لحديث علي بن أبي طالب قال: ((كان رسول الله يُقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً))، وفي لفظ: ((كان يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه - أو قال - يحجزه عن القرآن شيء سوى الجنابة))( )؛ ولحديثه ، أنه توضأ ثم قال: هكذا رأيت رسول الله توضأ ثم قرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: ((هذا لمن ليس بجنب فأما الجنب فلا، ولا آية))( ). وإذا قرأ من عليه حدث أصغر فلا يمس القرآن، وإنما يقرأ عن ظهر قلب؛ لحديث عمرو بن حزم، وحكيم بن حزام، وابن عمر : ((لا يمس القرآن إلا طاهر))( )، وأما قراءة القرآن للحائض والنفساء فالصواب من قولي أهل العلم: أنه يجوز للحائض والنفساء أن تقرأ القرآن بدون مسٍّ للمصحف؛ لأن الحديث في منعها من قراءة القرآن ضعيف( )؛ ولأن قياس الحائض والنفساء على الجنب ليس بظاهر؛ولأن الجنب وقته قصير،وبإمكانه أن يغتسل في الحال؛لأن مدته لا تطول،وإن عجز عن الماء تيمَّم، وصلَّى وقرأ،أما الحائض والنفساء فيحتاج ذلك إلى وقت طويل ربما نسيت فيه ما حفظت من القرآن، وربما احتاجت إلى تدريس القرآن للنساء؛ ولأن النبي قال لعائشة
رضي الله عنها: ((افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري))،ومن أفضل أعمال الحج قراءة القرآن،ولم يقل لها:لا تقرئي القرآن،وقد أباح لها أعمال الحاج كلها،فدل ذلك كله على أن الصواب جواز قراءة الحائض والنفساء القرآن عن ظهر قلب بدون مس للمصحف( ).
الأدب الخامس: يستاك عند قراءة القرآن؛ لحديث علي ، قال: قال رسول الله : ((إن العبد إذا تسوَّك ثم قام يصلي قام الملك خلفه فيستمع لقراءته، فيدنو منه - أو كلمة نحوها - حتى يضع فاه على فيه، فما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف الملك، فطهِّروا أفواهكم للقرآن))( )، وعن علي قال: ((إن أفواهكم طرق القرآن فطيِّبوها بالسواك))( ).
الأدب السادس: لا يقرأ القرآن في الأماكن المستقذرة، أو في مَجْمَعٍ لا يُنصت فيه للقراءة؛ لأن قراءته في مثل ذلك إهانة للقرآن وهو كلام الله ، ولا يجوز أن يقرأ القرآن في بيت الخلاء، ونحوه مما أُعِدَّ للتبوُّل، أو التغوُّط؛ لأنه لا يليق بالقرآن الكريم.
الأدب السابع:يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند إرادة التلاوة؛ لقول الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم ( ).
وأما البسملة: فإن كان ابتدأ قراءته من أثناء السورة اكتفى بالاستعاذة بدون بسملة، وإن كان من أول السورة فيبسمل في بداية كل سورة إلا سورة التوبة؛ فإنه ليس في أولها بسملة.
الأدب الثامن:يُحسِّن صوته بقراءة القرآن الكريم،ويترنَّم به، للأحاديث الآتية:
1ـ حديث أبي هريرة عن النبي قال: ((ما أَذِنَ( ) الله لشيءٍ ما أذِنَ لنبيِّ أن يتغنَّى( ) بالقرآن))، ولفظ مسلم: ((ما أذِنَ الله لشيء ما أذِنَ لنبيِّ حَسَن الصوت يتغنّى بالقرآن))، وفي لفظ لمسلم: ((ما أذِنَ الله لشيءٍ ما أذِنَ لنبيٍّ يتغنَّى بالقرآن يجهر به))( ).
2- حديث أبي موسى الأشعري ، عن النبي أنه قال له: ((يا أبا موسى لقد أوتيت مزماراً من مزامير( ) آل داود))، وفي لفظٍ لمسلم: ((لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة؟ لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود))( ).
3- حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله : ((زيّنوا القرآن بأصواتكم))( ).
قال الإمام النووي رحمه الله: ((قال القاضي: أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقراءة، وترتيلها، قال أبو عبيد: والأحاديث في ذلك محمولة على التحزين والتشويق))( ) ( ).
4- حديث سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله : ((ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن))( ).
5- حديث أبي لبابة، قال سمعت رسول الله يقول: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن))، فقيل لابن أبي مليكة: يا أبا محمد أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسِّن ما استطاع( ) .
وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول(والتغني بالقرآن: يجهر به ويُحسّن به صوته حتى يستفيد هو ويستفيد الناس،فالمؤمن يجاهد نفسه يخشع ويُخشِّع من حوله،((ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن))،وهذا يدل على الوعيد لمن لم يتغن بالقرآن،وهو مثل قوله (من غشنا فليس منّا)) فيه الوعيد الشديد لمن لم يتغنَّ بالقرآن؛لأن الله أنزل القرآن للتدبر والعمل
ليدّبروا آياته ولم يقل:ليقرؤوا، فقليل بتدبر خير من كثير بلا تدبر))( ).
6- حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقرأ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون في العشاء، وما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه، أو قراءةً))، وفي لفظ عن عدي، قال: سمعت البراء يُحدِّث عن النبي أنه كان في سفر فصلَّى العشاء الآخرة فقرأ في إحدى الركعتين:
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون ))( ) ( ).
الأدب التاسع: يُرتِّل القرآن ترتيلاً؛ لقول الله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ( ).
والترتيل مصدر رتّل الكلام: أحسن تأليفه.
وهو في الاصطلاح: قراءة القرآن على مُكثٍ وتفهّمٍ من غير عجلةٍ، وهو الذي نزل به القرآن.
فيقرأ القرآن: بِتَلَبُّثٍ في قراءتِهِ، وتمهّلٍ فيها، ويفصل الحرف عن الحرف الذي بعده، وفي ذلك عون على تدبُّرِ القرآن وتفهُّمِهِ، ومرتبة الترتيل أفضل مراتب القراءة.
وعن أنس ، قال قتادة: سألت أنس بن مالك عن قراءة النبي فقال: كان يمدُّ مداًّ: ثم قرأ: بِسْمِ الله الرَّحْمـَنِ الرَّحِيم يمدّ ((بسم الله))، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم( )( ).
وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها ذكرت قراءة رسول الله ((بِسْمِ الله الرَّحْمـَنِ الرَّحِيم * الـْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين * الرَّحْمـنِ الرَّحِيم * مَـلِكِ يَوْمِ الدِّين. يُقطِّع قراءته آية آية. قال أبو داود: ((سمعت أحمد يقول: ((القراءة القديمة مالك يوم الدين))، ولفظ الترمذي: ((الـْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين))، ثم يقف ((الرَّحْمـنِ الرَّحِيم)) ثم يقف...))( ).
وعن عبد الله بن مغفل قال: رأيت رسول الله يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يُرجِّع))( )، وقال: لولا أن يجتمع الناس حولي لرجَّعت كما رجَّع))، وفي لفظ للبخاري: ((رأيت النبي يقرأ وهو على ناقته أو جمله، وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة ليّنة يقرأ وهو يرجع))، وفي رواية: ((... ثم قرأ معاوية [بن قرة] يحكي قراءة ابن مغفل، وقال: لولا أن يجتمع الناس عليكم، لرجَّعت كما رجع ابن مغفل يحكي النبي ، فقلت لمعاوية كيف كان ترجيعه؟ قال: آ آ آ ثلاث مرات))( )، وفي الحديث ملازمة النبي للعبادة؛ لأنه حالة ركوبه الناقة وهو يسير لم يترك العبادة بالتلاوة، وفي جهره بذلك إرشاد إلى أن الجهر بالعبادة قد يكون في بعض المواضع أفضل من الإسرار، وهو عند التعليم وإيقاظ الغافل ونحو ذلك( ).
وعن عبد الله بن مسعود أن رجلاً قرأ المفصل في ركعة، فقال له: ((هذّاً كهذّ الشعر؟ لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل:سورتين من آل حم في كل ركعة( )، وفي لفظ: ((كان النبي يقرأهن اثنتين اثنتين في كل ركعة ))، وقال: ((عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود آخرهن من الحواميم ((حم)) الدخان،و((عم يتساءلون))( )،وفي لفظ لمسلم: ((عشرون سورة في عشر ركعات من المفصل في تأليف عبد الله))( )، وفي لفظ لمسلم: ((... هذاً كهذ الشعر، إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع، وإنَّ أفضل الصلاة: الركوع والسجود، إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله يقرن بينهن))( ) .
فيستحب للقارئ التالي لكتاب الله تعالى أن يرتل وهذا هو الأفضل أن يرتِّل، ولا بأس بالسرعة التي ليس فيها إخلال باللفظ: بإسقاط بعض الحروف، أو إدغام ما لا يصح إدغامه، وهذه قراءة الحدر: وهو إدراج القراءة وسرعتها، ولابد فيه من مراعاة أحكام التجويد، ومن المدّ والتشديد، والقطع، والوصل؛ وليحذر فيه من بتر حرف المد وذهاب الغنة.
فإن حصل إخلال باللفظ في هذه القراءة فهي حرام؛لأنها تغيير للقرآن( ).
الأدب العاشر:إذا مرَّ القارئ بآية رحمة سأل الله من فضله، وإذا مر بآية عذاب استعاذ بالله تعالى، وإذا مرّ بآية فيها سؤال سأل؛ لحديث حذيفة ، قال صليت مع النبي ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى يصلي، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مرَّ بآية تسبيح سبح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوذ تعوّذ...))( ).
الأدب الحادي عشر:يقرأ القرآن على ترتيب المصحف، فيقرأ الفاتحة، ثم البقرة، ثم آل عمران، ثم ما بعدها على الترتيب، إلا فيما ورد الشرع باستثنائه، كصلاة الصبح يوم الجمعة؛ فإن الأفضل أن يقرأ في الأولى سورة السجدة، وفي الثانية سورة الإنسان، وفي صلاة العيد: في الأولى (ق)، والثانية (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)، وركعتي سنة الفجر، في الأولى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ، وفي الثانية (قُلْ هُوَ الله أَحَد)، وكذلك من السنة قراءة هاتين السورتين في ركعتي الطواف، وفي السنة الراتبة لصلاة المغرب بعدها، وكذلك ركعات الوتر: في الأولى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)، وفي الثانية: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ، وفي الثالثةقُلْ هُوَ الله أَحَدٌ)، ولو خالف الترتيب فقرأ سورة لا تلي الأولى،أو قرأ سورة قبلها جاز، ولكن الأفضل القراءة على ترتيب المصحف، أما القراءة في الصلوات الخمس؛ فإن الأفضل أن لا يقرأ القرآن من أوله إلى آخره على ترتيب المصحف، بل يعمل بسنة النبي من قوله وفعله( ).
وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فممنوع منعاً مؤكداً؛ فإنه يذهب بعض ضروب الإعجاز، ويزيل حكمة ترتيب الآيات.
قال الإمام النووي رحمه الله: ((وروى ابن أبي داود عن الحسن: أنه كان يكره مخالفة ترتيب المصحف، وبإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود ، أنه قيل له: ((إن فلاناً يقرأ القرآن منكوساً؟ فقال: ((ذلك منكوس القلب))( ).
وأما تعليم الصبيان من آخر المصحف إلى أوله فحسن ليس من هذا الباب؛فإن ذلك قراءة متفاصلة في أيام متعددة،مع ما فيه من تسهيل الحفظ عليهم،والله أعلم( ).
الأدب الثاني عشر: يجهر بالقرآن ما لم يتأذَّ أحد بصوته:
دلت الأحاديث في تحسين الصوت بالقرآن، وفي الترتيل والترنيم بالقرآن، والتغني به على استحباب رفع الصوت والجهر بالقرآن، كما دلت أحاديث أخرى على الحث على الإسرار بالقرآن؛ فكانت الأحاديث في ذلك على نوعين:
النوع الأول: استحباب الجهر برفع الصوت بالقرآن:
جاء في هذا النوع من الأحاديث المذكورة آنفاً في الأمر بتزيين الصوت بالقرآن وتحسينه، كقوله : ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)) ( )، وقول النبي لأبي موسى: ((لقد رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة؟ لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود))( )،وقوله (زينوا القرآن بأصواتكم))( ).وغير ذلك مما تقدم في الترغيب في تحسين الصوت بالقراءة،وعن أبي موسى ،قال:قال رسول الله (إني لأعرف أصوات رُفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل وإن كنت لم أرَ منازلهم حين نزلوا بالنهار... ))( ) . وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول(كان لهم أصوات حسنة بالقرآن ))( ).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أبطأتُ على عهد رسول الله ليلة بعد العشاء، ثم جئتُ فقال: ((أين كنتِ؟))، قلت: كنت أستمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع مثل قراءته وصوته من أحدٍ، قالت: فقام وقمت معه حتى استمع له، ثم التفت إليَّ فقال: ((هذا سالم مولى أبي حذيفة، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا))( ).
وعن جابر ، قال: قال رسول الله : ((إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله))( ).
وفي إثبات الجهر بالقرآن أحاديث كثيرة.
النوع الثاني: الجهر بالقراءة وإخفاؤها:
جاء في ذلك أحاديث منها حديث عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله : ((الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة))( ).
وعن أبي سعيد ، قال:اعتكف رسول الله في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة،فكشف الستر وقال(ألا إن كُلَّكم مناجٍ ربَّه فلا يؤذينَّ بعضكم بعضاً ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة))،أو قال(في الصلاة))( ).
فعلى هذا دلت الأحاديث على النوعين: فجاءت الأحاديث في النوع الأول باستحباب رفع الصوت بالقراءة، والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين: من أقوالهم، وأفعالهم فأكثر من أن تُحصر، وأشهر من أن تُذكر( ).
وجاء في النوع الثاني أحاديث وآثار تدل على استحباب الإسرار وخفض الصوت بالقراءة.
والجمع بين هذين النوعين أن القارئ إذا خاف الرياء، أو السمعة،أو يتأذَّى مصلون، أو نيام بجهره، أو خاف إعجاباً، أو يلبَّس على من يقرأ أو غير ذلك من أنواع القبائح فالإسرار بالقراءة والإخفاء بها أفضل.
أما من لم يخفْ شيئاً من ذلك فالجهر بالقراءة له أفضل، ويستحب له ذلك؛ لأن العمل في الجهر أكثر؛ ولأن فائدته تتعدَّى للسامعين؛ ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إلى التدبر، ويطرد النوم ويزيد في النشاط، ويطرد الشيطان، فإن كانت القراءة بحضور من يستمع إليه، تأكد استحباب الجهر( ).
قلت: ويدل على هذا الجمع حديث عبد الله بن أبي قيس رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها أنه سألها في حديث طويل، وفيه أنه سألها عن قراءة النبي ، فقال: ... فقلت: كيف كانت قراءته: أكان يسر بالقراءة أم يجهر؟ قالت: ((كل ذلك قد كان يفعل: قد كان ربما أسر، وربما جهر))، قال: فقلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعةً... ))( ).
وعن أبي قتادة ، أن النبي قال لأبي بكر: ((يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلّي تخفض صوتك؟))، قال: قد أسمعت من ناجيتُ يا رسول الله!، قال: ((ارفع قليلاً))، وقال لعمر: ((مررت بك وأنت تصلِّي رافعاً صوتك؟))، قال: يا رسول الله أُوقظ الوسنان( )، وأطرد الشيطان! قال: ((اخفض قليلاً))( ).
الأدب الثالث عشر:يُستحب للقارئ في غير الصلاة استقبال القبلة؛ لحديث أبي هريرة ، قال: قال رسول الله : ((إن لكل شيء سيداً، وإن سيد المجالس قبالة القبلة))( ) .
ولو قرأ قائماً، أو جالساً، أو راكباً، أو مضطجعاً، أو في فراشه جاز له ذلك ولا حرج( )، قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ... الآيات ( ).
وقد كان النبي يقرأ القرآن في حجر عائشة، قالت رضي الله عنها: ((كان يتكئ في حجري( ) وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن))( ) .
وقد كان النبي يذكر الله على كل أحيانه، وثبت عنه أنه كان يقرأ القرآن على راحلته؛ لحديث عبد الله بن مغفل قال: رأيت رسول الله يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يُرجِّع، وقال: لولا أن يجتمع الناس حولي لرجَّعت كما يرجِّع))( ) .
وقد قال معاذ لأبي موسى: ((كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائماً وقاعداً، وعلى راحلتي، وأتفوّقه تفوَّقاً))( ).
وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول في تقريره على حديث عبد الله بن مغفل في قراءة النبي سورة الفتح على راحلته، قال: ((وهذا يدل على أن المسلم يقرأ القرآن أينما كان إلا في الحمام: فيقرأ على دابته، وعلى سيارته، وفي فراشه))( ).
الأدب الرابع عشر: حسن الاستماع من المستمع للقرآن، ينبغي للمستمع لتلاوة القرآن من غيره: أن يُنْصِت، ويحسن الاستماع: سواء كان ذلك من القارئ المُشَاهَد، أو من الإذاعة، أو غير ذلك، ويتأدَّب كذلك بالآداب السابقة، وقد نُقل عن الليث بن سعد رحمه الله، أنه قال: ((يقال: ما الرحمة إلى أحدٍ بأسرع منها إلى مستمع القرآن؛ لقول الله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون ( ) ولعلَّ من الله واجبة))( ).
فإذا كان هذا الثواب لمستمع القرآن،فكيف بتاليه؟( ).
الأدب الخامس عشر:سجود تلاوة القرآن الكريم للقارئ والمستمع:
1- فضل سجود التلاوة عظيم؛ لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله [وفي رواية يا ويلي] أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرت بالسجود فأبيت فلي النار))( )، وهذا الحديث فيه الحث على سجود التلاوة والترغيب فيه.
2- سجود التلاوة سنة مؤكدة على الصحيح للتالي والمستمع( )؛ لحديث عبد الله بن مسعود قال: قرأ النبي النجم بمكة فسجد بها فما بقي أحد من القوم إلا سجد، غير شيخ أخذ كفَّاً من حصى أو تراب ورفعه إلى جبهته [فسجد عليه] وقال يكفيني هذا، فرأيته بعد ذلك قُتِلَ كافراً [وهو أمية بن خلف]))، وفي رواية: ((أول سورة أنزلت فيها سجدة وَالنَّجْمِ ، فسجد رسول الله وسجد من خلفه...)) الحديث( ).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((سجد النبي [بالنجم]، وسجد معه المسلمون، والمشركون، والجن، والإنس))( ).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد معه، فنزدحم حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعاً يسجد عليه)) ولفظ مسلم: ((أن النبي كان يقرأ القرآن، فيقرأ سورة فيها سجدة ونسجد معه...))الحديث( ).
وعن أبي هريرة قال:سجدنا مع النبي في إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ، و اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ( ).
وهذه الأحاديث تدل على أهمية سجود التلاوة ومشروعيته المؤكدة وعناية النبي به، ولكن دلت الأدلة الأخرى على عدم الوجوب، فقد ثبت أن عمر بن الخطاب قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: ((يا أيها الناس إنما نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه)) ولم يسجد عمر وفي لفظ: ((إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء))( ).
ومن أوضح الأدلة على أن سجود التلاوة سنة مؤكدة وليس بواجب حديث زيد بن ثابت قال: ((قرأت على النبي وَالنَّجْمِ فلم يسجد فيها))( ).
ورجّح الإمام النووي والحافظ ابن حجر، وابن قدامة - رحمهم الله - أن حديث زيد بن ثابت هذا محمول على بيان جواز عدم السجود، وأنه سنة مؤكدة وليس بواجب؛ لأنه لو كان واجباً لأمره بالسجود ولو بعد ذلك( )، وقال الحافظ ابن حجر: ((وأقوى الأدلة على نفي الوجوب حديث عمر المذكور في هذا الباب))( )، وتعقبه الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله -فبين ((أن أقوى منه وأوضح في الدلالة على عدم وجوب سجود التلاوة: قراءة زيد بن ثابت على النبي سورة النجم فلم يسجد فيها، ولم يأمره النبي بالسجود، ولو كان واجباً لأمره به))( ).
3- سجود المستمع إذا سجد القارئ، وإذا لم يسجد لم يسجد؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد معه فنزدحم حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعاً يسجد عليه))( )، وقال ابن مسعود لتميم بن حَذْلم - وهو غلام - فقرأ عليه سجدة فقال: ((اسجد فأنت إمامنا فيها))( )، فالمستمع الذي ينصت للقارئ ويتابعه في الاستماع يسجد مع القارئ إذا سجد وإذا لم يسجد فلا( ).
أما السامع الذي لا يقصد سماع القرآن وإنما مرَّ فسمع القراءة وسجد القارئ، فإنه لا يلزمه السجود، قيل لعمران بن حصين : الرجل يسمع السجدة ولم يجلس لها، قال: ((أرأيت لو قعد لها؟)) كأنه لا يوجبه عليه( ). وقال سلمان الفارسي : ((ما لهذا غدونا))( )، وقال عثمان : ((إنما السجدة على من استمعها))( )، وأما المستمع بقصدٍ فقال ابن بطال: ((وأجمعوا على أن القارئ إذا سجد لزم المستمع أن يسجد))( ).
فقد فرَّق بعض العلماء بين السامع والمستمع بما دلت عليه هذه
الآثار( ).
4- عدد سجدات القرآن ومواضعها، خمس عشرة سجدة( ) في المواضع الآتية:
الموضع الأول:آخر سورة الأعراف،عند قوله تعالى:وَلَهُ يَسْجُدُونَ( ).
الموضع الثاني:في الرعد عند قوله تعالى:وَظِلالـُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ( ).
الموضع الثالث: في النحل عند قوله تعالى: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( ).
الموضع الرابع: في الإسراء عند قوله تعالى: وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ( ).
الموضع الخامس: في سورة مريم عند قوله: خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ( ).
الموضع السادس: في سورة الحج عند قوله تعالى: إِنَّ الله يَفْعَلُ
مَا يَشَاءُ( ).
الموضع السابع: في سورة الحج عند قوله تعالى: وَافْعَلُوا الـْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ).
الموضع الثامن: في سورة الفرقان عند قوله تعالى: وَزَادَهُمْ نُفُورًا ( ).
الموضع التاسع:في سورة النمل،عند قوله تعالى:رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ( ).
الموضع العاشر: في سورة الم السجدة، عند قوله تعالى: وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ( ).
الموضع الحادي عشر:في سورة ص،عند قوله:وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ( ).
الموضع الثاني عشر:في سورة فصلت،عند قوله تعالى:وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ( ).
وهذا قول الجمهور من العلماء، وقال الإمام مالك - رحمه الله - وطائفة من السلف، بل عند قوله تعالى: إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( ).
الموضع الثالث عشر: في آخر سورة النجم، عند قوله تعالى: فَاسْجُدُوا لله وَاعْبُدُوا ( ).
الموضع الرابع عشر: في سورة الانشقاق عند قوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ ( ).
الموضع الخامس عشر: في آخر سورة العلق عند قوله تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ( ). وسجدتا سورة الحج جاء فيهما خبر خالد بن معدان قال: ((فضلت سورة الحج بسجدتين))( )، وجاء في خبر عقبة بن عامر، وزاد: ((فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما))( ).
5- سجود التلاوة في الصلاة الجهرية ثابت؛ لحديث أبي هريرة أنه صلى بأصحابه صلاة العشاء فقرأ: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ فسجد، فقيل له: ما هذه؟ قال: ((سجدت فيها خلف أبي القاسم ، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه))( ).
6-صفة سجود التلاوة،من قرأ آية سجدة أو كان يستمع لها، فإنه يستحب له أن يستقبل القبلة ويكبر،ويسجد ثم يقول دعاء السجود،ثم يرفع من السجود بدون تكبير،ولا تشهد،ولا سلام( )؛لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله يقرأ علينا القرآن، فإذا مرَّ بالسجدة كبَّر وسجد وسجدنا معه))( ). وإذا كان سجود التلاوة في الصلاة، فإنه يكبر حين يسجد وحين ينهض من السجود؛ لأن النبي كان يكبر في الصلاة في كل خفض ورفع( )، وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي))( )، وإذا قرأ السجدة في الصلاة في آخر السورة، فإن شاء ركع، وإن شاء سجد ثم قام فقرأ شيئاً من القرآن ثم ركع، وإن شاء سجد ثم قام فركع من غير قراءة))( ).
7- الدعاء في سجود التلاوة، يدعو بمثل دعائه في سجود الصلاة، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله يقول في سجود القرآن بالليل [يقول في السجدة مراراً]( ): ((سجد وجهي للذي خلقه [وصوَّره]( ) وشقَّ سمعَه وبصرَه، بحوله وقوته [فتبارك الله أحسن الخالقين]( )))( ).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، إني رأيت البارحة فيما يرى النائم كأني أصلي إلى أصل شجرة، فقرأت السجدة فسجدْتُ، فسَجَدَتِ الشجرةُ لسجودي، فسمعتها تقول: ((اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، [وتقبَّلْها مني كما تقبَّلْتها من عبدك داود])). قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((فرأيت النبي قرأ سجدة ثم سجد، فسمعته يقول في سجوده مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة))( ).
ويشرع في سجود التلاوة ما يشرع في سجود الصلاة( ).
والصواب أن سجود التلاوة يجوز في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ لأنه من ذوات الأسباب( ).
الأدب السادس عشر: معرفة الابتداء والوقف:
ينبغي للقارئ إذا ابتدأ من وسط السورة أو وقف على غير آخرها أن يبتدئ من أول الكلام المرتبط بعضه ببعض وأن يقف على الكلام المرتبط ولا يتقيَّد بالأعشار والأجزاء؛ فإنها قد تكون في وسط الكلام المرتبط كالجزء الذي في قوله تعالى: وَالـْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ( )، وفي قوله تعالى: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ( ) ،وفي قوله تعالى:فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ( )، وقوله تعالى: وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لله وَرَسُولِهِ ( )، وفي قوله تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء ( )، وفي قوله تعالى:
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ( )، وفي قوله تعالى: وَبَدَا لـَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا ( )، وفي قوله: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الـْمُرْسَلُون ( )، كقوله تعالى: وَاذْكُرُواْ الله فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ( )، وقوله تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ ( )؛ فكل هذا وشبهه ينبغي أن لا يبتدأ به ولا يوقف عليه؛فإنه متعلق بما قبله، ولا يغترنَّ بكثرة الغافلين له من القراء الذين لا يراعون هذه الآداب، ولا يفكرون في هذه المعاني؛ وليمتثل ما روى الحاكم أبو عبد الله بإسناده عن الفضيل بن عياض قال(لا تستوحش طرق الهدى لقلة أهلها، ولا تغترنَّ بكثرة الهالكين، ولا يضرك قلة السالكين))؛ ولهذا المعنى قال العلماء: قراءة سورة قصيرة بكاملها أفضل من قراءة بعض سورة طويلة بقدر القصيرة؛ فإنه قد يخفى الارتباط على بعض الناس في بعض الأحوال. وقد روى ابن أبي داود بإسناده عن عبد الله بن أبي الهذيل التابعي المعروف قال: كانوا يكرهون أن يقرؤوا بعض الآية ويتركوا بعضها)) ( ).
الأدب السابع عشر: إلزام النفس بالآداب الجميلة
فأول ذلك أن يخلص في طلبه لله كما ذكرنا، وأن يأخذ نفسه بقراءة القرآن في ليله ونهاره، في الصلاة وغيرها، وينبغي له أن يكون حامداً لله، ولنعمه شاكراً، وله ذاكراً، وعليه متوكلاً، وبه مستعيناً، وإليه راغباً، وبه معتصماً، وللموت ذاكراً، وله مستعداً، وينبغي له أن يكون خائفاً من ذنبه، راجياً عفو ربه، ويكون الخوف في صحته أغلب عليه، إذ لا يعلم بما يختم له، ويكون الرجاء عند حضور أجله
أقوى في نفسه لحسن الظن بالله تعالى، قال رسول الله :
((لا يموتن أحدكم إلاّ وهو يُحسن الظن بالله تعالى ))( )، أي أنه يرحمه ويغفر له.
وينبغي له أن يكون عالماً بأهل زمانه، متحفظاً من سلطانه، ساعياً في خلاص نفسه، [ونجاته]، مقدماً بين يديه ما يقدر عليه من عرض دنياه، مجاهداً لنفسه في ذلك ما استطاع.
وينبغي له أن يكون أهم أموره عنده:الورع في دينه، واستعمال تقوى الله تعالى ومراقبته فيما أمر به ونهاه عنه، وقال ابن مسعود(ينبغي لقارئ القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون،وبنهاره إذا الناس مفطرون،وببكائه إذا الناس يضحكون،وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون،وبحزنه إذا الناس يفرحون))( ).
وقال عبد الله بن عمرو(لا ينبغي لحامل القرآن أن يخوض مع من يخوض،ولا يجهل مع من جهل،ولكن يعفو ويصفح لحق القرآن؛لأن في جوفه كلام الله تعالى))( ).
وينبغي له أن يأخذ نفسه بالتصاون عن طرق الشبهات، ويقل الضحك والكلام في مجالس القرآن وغيرها بما لا فائدة فيه، ويأخذ نفسه بالحلم والوقار.
وينبغي له أن يتواضع للفقراء، ويتجنب التكبر والإعجاب، ويتجافى عن الدنيا وأبنائها إن خاف على نفسه الفتنة، ويترك الجدال والمراء، ويأخذ نفسه بالرفق والأدب.
وينبغي له أن يكون ممن يُؤمن شره، ويُرجى خيره، ويسلم من ضره، وأن لا يسمع ممن نمَّ عنده، ويصاحب من يعاونه على الخير، ويدله على الصدق ومكارم الأخلاق، ويزينه ولا يشينه( ).
الأدب الثامن عشر: مدة ختم القرآن
ختم القرآن نعمة عظيمة كُبرى لمن ابتغى بذلك وجه الله تعالى؛ لأن قراءة الحرف الواحد بحسنة والحسنة بعشر أمثالها؛ لقول النبي : ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف))( ).
وقد عدَّ بعض العلماء حروف القرآن الموجودة في المصحف في القراءة الموجودة، فبلغ عدد حروفه: ((ثلاثمائة ألف حرف وأحد عشر ألف ومئتان وخمسون حرفاً وحرف (311251)))( )، فإذا كان على كل حرف واحد حسنة والحسنة بعشر أمثالها فكم يكون لتالي القرآن من الحسنات؟ وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء وقد قال النبي لأصحابه: ((أيكم يحبُّ أن يغدوَ كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطيعة رحمٍ؟))، فقال أصحابه: يا رسول الله نحب ذلك!، قال: ((أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل))( ) .
وقد ذُكر الاتفاق بين أهل العلم على أن القرآن الموجود بيننا يزيد على ستة آلاف آية ومئتي آية( ).
وقد ذكر بعض علماء أهل الإسلام عدد آيات القرآن الكريم في المصحف الموجود المقروء بالألسنة: أنها ستة آلاف آية ومئتي آية وآية( )
(6201)، فإذا كانت القراءة لكل آية خير من ناقة عظيمة، فكم يكون لتالي القرآن كله من الأجر العظيم؟ ولا شك أن الإبل هي حمْر النعم، التي هي أغلى الأموال عند العرب وقد ثبت عندي أن هناك من الجمال ما يسام باثني عشر مليون [أي اثنا عشر ألف ألف] وبلغني أن هناك أيضاً من الإبل ما سيم بسبعة عشر مليون [أي سبعة عشر ألف ألف] وقراءة آية واحدة خير من واحدة من هذه الإبل العظيمة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقد جاءت الأحاديث الصحيحة تبين أكثر وقتٍ يُختم فيه القرآن، وأقل وقت يُختم فيه كذلك، فحدد النبي لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عندما سأله في كم يختم القرآن؛ وكان كل ما حدَّدَ له وقتاً وزمناً قال: يا رسول الله إني أقوى من ذلك، وفي بعض الألفاظ: إني أطيق أكثر من ذلك، ففي صحيح البخاري ومسلم أنه قال له: ((اقرأ القرآن في كل شهر))، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، فما زال يراجع النبي حتى قال له: ((في ثلاث))، وفي بعض الألفاظ: ((اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك))، هذا من ألفاظ البخاري، وفي لفظ لمسلم: ((اقرأ القرآن في كل شهر))، ثم راجعه فقال: ((فاقرأه في عشر ))،قال:يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: ((فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك...))، قال عبد الله بن عمرو : ((بعد ذلك فليتني قبلت رخصة رسول الله ، وذاك أني كبرت سني،فكان يقرأ على بعض أهله السُّبع من القرآن بالنهار، والذي قرأه يعرضه بالنهار ليكون أخف عليه بالليل))( ).
وثبت في سنن أبي داود أن عبد الله بن عمرو سأل النبي : في كم يقرأ القرآن؟ قال: ((في أربعين يوماً))، ثم قال: ((في شهر))، ثم قال: ((عشرين))، ثم قال: ((في خمس عشرة))، ثم قال: ((في عشرٍ))، ثم قال: ((في سبع))( )، وفي لفظٍ لأبي داود: إني أقوى من ذلك؟ قال: ((لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث))، وفي لفظ لأبي داود أيضاً: ((إقرأه في ثلاث))( ).
فهذه الروايات تدل المسلم على أنه لا ينبغي له أن يترك ختم القرآن أكثر من أربعين يوماً، وفي ألفاظ البخاري ومسلم: ((شهر))، ولا يختم في أقل من ثلاث))، هذا هو الأفضل؛ لأن النبي قال: ((لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث))، وكونه يختم في كل أسبوع ختمة خيرٌ كثير وثوابٌ عظيم مع التدبر لما يقرأ وهذا هو أغلب فعل الصحابة ، فإن قوي، وازدادت رغبته ختم في كل ثلاثة أيام( )، والله تعالى المعين منزل الرغبة للخير في قلوب من يشاء من عباده، وقد قال الله تعالى:
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لـِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا ( )،وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ( ) ( ).
وقد ثبت عن أنس بن مالك : أنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا( ).