الإحسان: سبيلٌ إلى محبّة الله ورحمته*
قال الله تعالى في كتابه العزيز:
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النّحل:90].
وقال تعالى: {للَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}[النَّحل:30].
واجب ومسؤوليّة
يدعونا الله سبحانه وتعالى من خلال هذه الآيات المباركة، إلى أن لا نكون أنانيِّين، بحيث يعيش كلُّ واحدٍ منّا في سجن ذاته، لا يفكِّر سوى في نفسه وحاجاته وأحلامه، ولا مشكلةَ عنده فيما قد يحدث للآخرين وما قد يعانون منه. ولا يريدنا الله أيضاً أن نكون تجاريّين في الخير الّذي نبذله، بحيث نعطي من يعطينا، ونساعد من يساعدنا، أو نتواصل مع من يتواصل معنا، أو ننتظر ليتقدَّم إلينا النَّاس بحاجاتهم، ولا نبحث نحن عنها.
بل أرادنا أن نزرع قيمة الإحسان في حياتنا؛ هذه القيمة الّتي تجعل الإنسان يشعر بمسؤوليَّته عن الآخرين، في حاجاتهم ومتطلَّباتهم وأحلامهم، بحيث يبحث هو عنها، ويسعى إلى تحقيقها بما يستطيع من دون منَّة، ومن دونِ أن يكون وراءَ ذلك هدفٌ ذاتيٌّ أو مطمعٌ خاصّ ليتحدَّث النَّاس عن خيره وعطائه، بل أن يكون الهدف من وراء ذلك هو إدخال الفرح إلى القلوب، وسدّ حاجات المحتاجين، بحيث يكون كالشّمس الّتي تشرق على كلّ النّاس، وكالينبوع الّذي يتدفّق على كلّ الأراضي، وكالمطر الّذي يحيي كلّ مكان ينـزل عليه، بحيث يشعر الإنسان بأنّ فيه جزءاً للإنسان الآخر، فهو لا يملك كلّ نفسه؛ صحيح أنّ له حاجاته الخاصّة، ولكنّه عندما يملك علماً، فإنَّ في علمه شيئاً للآخر. وهكذا عندما يملك طاقةً في جسد، أو خبرةً أو مالاً أو رأياً، فإنَّ في ذلك شيئاً للآخرين، وعليه أن يبادر في البذل ولا ينتظر حتى يأتي الناس إليه، يقول تعالى: {إنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}.
وبذلك نتخلّق بأخلاق الله الّذي وصف نفسه بالمحسن، وهو قديم الإحسان، الّذي من خلال إحسانه أوجد هذا الكون، وخلقنا فأحسن صورتنا. لذا علينا أن نتحرَّك بالرّوحيَّة نفسها الّتي تحرَّك بها الأنبياء والأولياء، وهم الَّذين أخلصوا للنَّاس، رغم كلّ ما تعرّضوا له من أذى وتحدّيات.
ميادين الإحسان
وقد أراد الله لكلّ أفراد المجتمع أن يأخذوا بالإحسان، فلا يقتصر على بعض الأفراد المميَّزين الخيِّرين، بل أن يكون من قبل أفراد المجتمع ومؤسَّساته، ومن قبل الدَّولة المعنيَّة بشؤون مواطنيها، بحيث نبني من خلال ذلك مجتمع الإحسان. كما أراد سبحانه أن لا يقتصر الإحسان على المال، بل أنْ يمتدَّ إلى كلِّ النّواحي الّتي تنعكس إيجاباً على الآخرين، ليكون بسمةً ترتسمُ على الوجه لتُدخلَ الفرحَ إلى قلوبِ الآخرين، أو علماً نبثّه للنّاس، أو جهداً نبذله من أجلهم، أو أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر، أو تخفيفاً عن محزونٍ أو مكروب، أو إصلاحاً بين متخاصمين، أو دماً نبذله من أجل رفع احتلالٍ، أو من أجل سلامة الوطن وعزّته، أو مؤسّساتٍ ترفع للخير قواعدها... ولذلك ورد في الحديث عن النبيّ(ص): "إنَّ الله كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيء"، وورد عن عليّ(ع): "المحسن من عمَّ النّاس بالإحسان".
والمحسن مع الله سبحانه وتعالى، هو الَّذي يعبده حقَّ العبادة، ويطيعه حقَّ الطَّاعة، وقد ورد عن رسول الله(ص) أنّه سئل عن الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن كنت لا تراه فإنَّه يراك". وقد أشار الله إلى المحسنين بأنّهم {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[النّمل:3].
ويمتدُّ الإحسان إلى النَّفس بمتابعتها وإصلاحها وتنميتها، يقول تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}[الشّمس:9_10]. وهو في الحياة الزَّوجيَّة، بأن يعاشر الزَّوج زوجته بالمعروف: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[النّساء:19]، أمّا المرأة، فإنّ إحسانها وجهادها هو "حسن التبعّل". ويتحقّق الإحسان إلى الوالديْن، بأن "تُحسن صحبتهما، وأن لا تكلّفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنييْن"، كما جاء عن أبي عبد الله الصّادق(ع). ويشمل الإحسان الأقارب والأرحام بالتّواصل معهم، وتقديم المساعدة عندما يحتاجون إليها. قال(ص): "صلوا أرحامكم ولو بالسَّلام"، وقال الإمام الصّادق(ع): "صل رحمك ولو بشربةٍ من ماء".
ويكون الإحسان أيضاً تواصلاً مع الجيران واهتماماً بهم وحرصاً عليهم، ويكون في الأولاد من خلال رعايتهم ورعاية إيمانهم والاهتمام بمستقبلهم... ويمتدُّ الإحسان إلى الفقراء والمساكين والأيتام والعجزة وكلّ الضّعاف في المجتمع، من الخدم والعمّال وكلّ الّذين نملك أمرهم.
الإحسان إلى المؤمن والمسيء
ويمتدّ الإحسان حتى إلى الّذين نختلف معهم في الدّين ما داموا لا يقاتلوننا لترك ديننا، ولا يسعون لإخراجنا من أرضنا واحتلالها، أو التّعاون مع الّذين يكيدون لنا ولا يريدون بنا خيراً: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* ِإنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} [الممتحنة: 8_9].
ويكون الإحسان أيضاً في تعاملنا مع الّذين يسيئون إلينا، أو الّذين قد يصدر الشّرّ منهم تجاهنا، لنفتح قلوبهم وعقولهم علينا، كما أشار حديث عليّ(ع): "أصلح المسيء بحسن فعالك، ودلّ على الخير بجميل مقالك"، لأنّ الإحسان إلى المسيء يصلح المسيء حتى لو كان عدوّاً.
والإحسان أيضاً يتحرّك بالاهتمام بالوطن وحفظ أمنه وسياسته واقتصاده، ويكون أيضاً في رعاية الحيوان، بالاهتمام به وعدم إيذائه أو قتله إلاّ عندما يؤذي، وأيضاً في رعاية البيئة والحفاظ عليها ومنع تعريضها للتّخريب والفساد...
بلوغ محبّة الله
والإحسان عندما يتحقَّق، فإنَّه يكون سبيلاً لبلوغ محبَّة الله: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة:195]، وهو الوسيلة لرحمته: {إنَّرَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف:56]. والإحسان هو تعبيرٌ عمليّ عن أعلى درجات الإيمان، ولذلك قال عليّ(ع): "أفضل الإيمان الإحسان". وبالتّالي، هو سبيلٌ لبلوغ أعلى الدّرجات عند الله سبحانه في جنّته الواسعة: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ}[المرسلات:41_42].
هذا إلى جانب الدّور الذي يمثّله في الدّنيا، عندما يبقى الإحسان ذكراً لمن يقوم به حتى بعد مماته، وقد ورد عن رسول الله(ص): "سبعة يجري للعبد أجرهنّ بعد موته: مَنْ علّم علماً، أو كرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو ورّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته".
هذا إلى جانب الفرح والسّرور الّذي يعيشه المحسن عندما يصنع الإحسان ويرى آثاره في حياة الآخرين وفي مشاعرهم، إلى جانب الحبّ الّذي يحصل عليه من النّاس، والتّقدير والثّناء منهم، ولذا ورد عن رسول الله(ص): "جُبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها"، وقد قال الشّاعر:
أحسن إلى النّاس تستعبد قلوبهمفطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
ولذا اعتبر الحديث أنّ الحياة الأجمل هي عندما تتحرّك حياة الإنسان خيراً في حياة الآخرين، فقد ورد عن عليّ(ع): "إنّ أحسن النّاس عيشاً من حسن عيش النّاس في عيشه".
ولذلك، عندما جاء رجلٌ إلى رسول الله(ص) فقال له: علَّمني عملاً يحبّني الله عليه ويحبّني المخلوقون، ويُثري الله مالي ويصحّ بدني ويطيل عمري ويحشرني معك. قال(ص): "هذه ستّ خصالٍ تحتاج إلى ستّ خصال: إذا أردت أن يحبّك الله، فخفه واتّقه، وإذا أردت أن يحبّك المخلوقون، فأحسن إليهم وارفض ما في أيديهم،وإذا أردت أن يثري الله مالك فزكّه،وإذا أردت أن يصحّ اللهُ بدنَك فأكثر من الصَّدقة،وإذا أردت أن يطيل الله عمرك فصل ذوي أرحامك، وإذا أردت أن يحشرك الله معي فأطل السّجود بين يدي الله الواحد القهّار".
روحيّة الخير والعطاء
أيّها الأحبّة، هذا هو الإسلام، جاء ليفتح قلوب الملتزمين به على الخير والإحسان إلى الآخرين، كلّ الآخرين، بحيث يرى المسلم نفسه معنيّاً بأن تكون الحياة من خلاله أفضل وأجمل وأكثر عدالةً وأمناً، ولا يحب أن يغادر الحياة إلاّ وقد صنع شيئاً من وجوده فيها...
هذه هي الرّوح الّتي يعيشها المسلمون كلَّ يومٍ من خلال إسلامهم، في حين تفتقدها المجتمعات الغربية، والتي نحتاج إلى تأكيدها حتى تكون حياتنا أكثرَ رحابةً، وأكثرَ سعادةً، وحتّى نشعر بأنّ حياتنا هي أكثر من حياة، وأنّ وجودنا أكثر من وجود، وحتى إذا متنا، يبقى ذكرنا أثراً طيّباً في قلوب الآخرين.
الحياة ـ أيّها الأحبّة ـ رحلة طيّبة أعطانا الله فيها نعمة الوجود ونعمة الحركة، وأرادنا أن نجعل من حياتنا الدّنيا على الأرض جنّةً، لنصل بعد ذلك إلى جنّة السّماء، وهذا لا يتحقّق إلاّ عندما يُشرق الخير في قلوبنا وعقولنا وكلّ حياتنا.
"اللّهمّ وفّقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه، وفي جميع أيّامنا، لاستعمال الخير، وهجران الشّرّ، وشكر النّعم، واتباع السّنن، ومجانبة البدع، وحياطة الإسلام، وانتقاص الباطل وإذلاله، ونصرة الحقّ وإعزازه، وإرشاد الضالّ، ومعاونة الضّعيف وإدراك اللّهيف" .
والحمد لله ربّ العالمين.